فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{والليل إِذَا يغشى} أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى: {والليل إذا يغشاها} [الشمس: 4] أو النهار كقوله تعالى: {يغشى الليل النهار} [الأعراف: 54] أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله.
{والنهار إِذَا تجلى} ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس والأول على تقدير كون المغشى النهار أو كل ما يواري إذ مآلهما اعتبار وجود الظلام والثاني على تقدير كونه الشمس إذ ما له اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف الفعليه مضيا واستقبالاً قد تقدم الكلام فيه وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير {تتجلى} بتائين على أن الضمير للشمس وقرئ {تجلى} بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضاً.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى (3)}
أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم وقال ابن عباس والحسن والكلبي المراد بالذكر آدم عليه السلام وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيَّا ما كان فما موصولة بمعنى من واو ثرت عليها لإرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل المصدرية وليس بذاك وقرئ {والذي خلق} وقرأ ابن مسعود {والذكر والأنثى} وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن انلجار في تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعلي كرم الله تعالى وجهه وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن علقمة أنه قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له أبو الدرداء فمن أنت فقال من أهل الكوفة قال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {والليل إذا يغشى} قال علقمة {والذكر والأنثى} فقال أبو الدرداء أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ {وما خلق الذكر والأنثى} والله لا أتابعهم وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحاداً لا تجوز القراءة بها لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبي عليه الصلاة والسلام في حكم المتواترة تجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ {وما خلق الذكر} بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا ذلك على البدل من ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر والأنثى.
قيل وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي وخلق الذكر والأنثى كما في قوله:
تطوف العفاة بأبوابه ** كما طاف بالبيعة الراهب

بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ} أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم فيكون جمعاً معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى: {لشتى} فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى الجمع ويكون شتى مصدراً مؤنثاً كذكرى وبشرى خبراً له بتقدير مضاف أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعلها عين الافتراق مبالغة وأيَّا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير عن قتادة وجوز أن يكون الجواب مقدراً كما مر غير مرة والمراد بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى} إلخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك وجوز أن يراد باختلافها كون البعض طالباً لليوم المتجلي والبعض طالباً لليل الغاشي وبعضها مستعاناً بالذكر وبعضها مستعاناً بالأنثى فيكون الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته والظاهر أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد المراد إنفاق ماله في سبيل الله تعالى وقال قتادة المعنى أعطى حق الله تعالى وظاهره الحقوق المالية {واتقى} أي واتق الله عز وجل كما قال ابن عباس وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهى عنه وفي رواية محارم الله تعالى وقال مجاهد واتقي البخل وهو كما ترى {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وروي ذلك عن ابن عباس لا إله إلا الله أو هي ما دلت على حق كما قال بعضهم وتدخل كلمة التوحيد دخولاً أولياً أو بالمالة الحسنى وهي ملة الإسلام وقال عكرمة وجماعة وروي عن ابن عباس أيضاً هي المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد الجنة وقيل المثوبة مطلقاً ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة المالية والاتفاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل الحسنات وترك السيئات مطلقاً والتصديق بالحسنى إشارة إلى الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو تفصيل شامل للمساعي كلها وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول ظاهراً فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أراك تعتق رقابا ضعافاً فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقيمون دونك فقال يا أبه إنما أريد ما أريد فنزلت فأما من أعطى واتقى إلى {وما لأحد عنده من نعمة تجزي} [الليل: 5-19] وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فاعتقه فأنزل الله تعالى: {والليل إذا يغشى} إلى قوله سبحانه: {إن سعيكم لشتى} [الليل: 1-4] وكذا على القول بأنها نزلت في أبي الدحداح ولما كان الإيمان أمراً معتنى به في نفسه أخر عن الاتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة وقيل المراد أعطي الطاعة واتتقي المعصية وصدق بالكلمة الدالة على الحق ككلمة الوتحيد وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصاً وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير الإيمان عليه بحاله وقيل آخر لأن من جملة إعطاء الطاعة الإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلا بها ومن جملة الاتقاء الاتقاء عن الإشراك وهما مقدمان على ذلك وليس بشيء.
{فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى} فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها ووصفها باليسرى إما على الاستعارة المصرحة أو المجاز المرسل أو التجوز في الإسناد.
{وَأَمَّا مَنْ يَخْلُ} بما له فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه {واستغنى} أي وزهد فيما عنده عز وجل كأنه مستغن عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة {واتقى} كما أن قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بالحسنى (9)}
في مقابلة {وصدق بالحسنى} [الليل: 6] والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل.
{فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومباديه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي إلى راحة وما يفضي إلى شدة والسين في سنيسره قيل للتأكيد وقيل للدلالة على أن لحزاء الموعود معظمة يكون في الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ وتقديم البخل فالاستغناء فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلا منهما أدنى رتبة مما بعد في استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلاً منهما أصيل فيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء وقيل التيسير أولاً بمعنى اللطف وثانياً بمعنى الخذلان واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي وأعسره على غيره والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125] وأما من بخل إلخ فسنخذله ونمنعه الالطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله تعالى: {يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء} [الأنعام: 125] وأصل هذا فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني التعسير لا الموصوف أعني الطاعة ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة وجوز أن يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر المشاكلة فيه على حاله وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة والإعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومباديهما من الصفات المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن الطباق لما صح في الأخبار أخرج الأمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء ثم قرأ عليه الصلاة والسلام {فأما من أعطى واتقى} [الليل: 5] الآيتين».
وكان حاصل ما أراده صلى الله عليه وسلم بقوله «اعملوا» إلخ عليكم بشأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها وأيَّاً ما كان فالمراد بمن أعطى إلخ وبمن بخل إلخ المتصف بعنوان الصلة مطلقاً وان كان السبب خاصاً إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومن بخل أمية بن خلف وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفي وفي هذا انظر لأن أبا سفيان أسلم وقوى إسلامه في آخر أمره عند أهل السنة وفي رواية الطستي عنه أن {وأما من بخل} [الليل: 8] إلخ نزل في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص.
{وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ} أي ولا يغنى عنه على أن ما نافية أو أي شيء يغنى عنه ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية {إِذَا تردى} أي هلك تفعل من الردي وهو الهلاك قاله مجاهد وقيل تردي في حفرة القبر وقال قتادة وأبو صالح تردي في جهنم أي سقط وقال قوم ترى باكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

92سورة الليل:
نزولها: مكية.
نزلت بعد سورة (الأعلى).
عدد آياتها: إحدى وعشرون آية.
عدد كلماتها: إحدى وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وعشرة أحرف.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة (الشمس) بهذا العذاب الذي أوقعه اللّه سبحانه بثمود، فغشيهم العذاب واشتمل عليهم، ولفّهم برداء أسود كئيب..
وبدئت سورة (الليل) بالقسم بـ: {الليل إذا يغشى}، فكان ظلام هذا الليل كفنا آخر لثمود، يصحبهم في قبورهم التي ابتلعنهم، ويقيم عليهم راية سوداء تحوّم عليهم، كما تحوّم الغربان على الجيف!!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92): الآيات 1- 21]
{وَاللَّيْلِ إِذا يغشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تجلى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى واتقى (5) وَصَدَّقَ بالحسنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واستغنى (8) وَكَذَّبَ بالحسنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تردى (11) إِنَّ عَلَيْنا للهدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ والأولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تلظى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الأشقى (15) الَّذِي كَذَّبَ وتولى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يتزكى (18) وَما لِأحد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تجزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى (20) وَلَسَوْفَ يرضى (21)}
قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يغشى} قسم بالليل حين يغشى ظلامه الكائنات، ويغطّى سواده وجه الأرض..
وبدء السورة بهذا القسم- كما قلنا- هو أشبه براية سوداء تحوّم على مواطن ثمود، التي دمدم اللّه عليها، كما تحوم الغربان على الرمم.. ثم إنه من جهة أخرى، يمثل الجانب الأعظم من جانبى الإنسانية، جانبى الكفر والإيمان، والضلال، والهدى، والظلام والنور.. فأغلب الناس على ضلال، وقليل منهم المهتدون، كما يقول سبحانه: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (103: يوسف) وفى التعبير بفعل المستقبل {يغشى} عن ظلام الليل- إشارة إلى أن الظلام عارض دخيل، يعرض للنور الذي هو أصل الوجود، كما يعرض الضلال للفطرة الإنسانية التي خلقها اللّه تعالى صافية لا شية فيها.
وقوله تعالى: {وَالنَّهارِ إِذا تجلى} معطوف على قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يغشى}.. وهو قسم بالنهار إذا ظهر، وتجلى على الوجود ضوءه..
وفى تقديم الليل على النهار، إشارة إلى هذا الظلام الذي كان منعقدا في أفق الحياة الإنسانية حين كانت ثمود تتحرك بطغيانها على الأرض، فلما دمدم اللّه عليهم الأرض، ورمى في أحشائها بهذا الظلام- عاد إلى الحياة صفاؤها، وطلع نهارها!!
وقوله تعالى: {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى}: معطوف على قوله تعالى: {وَالنَّهارِ إِذا تجلى} و{ما} هنا مصدرية.. أي وخلق الذكر والأنثى، وما أودع الخالق في كلّ منهما من آيات علمه، وحكمته، ورحمته..
والذكر والأنثى، هو مطلق كل ذكر، وكل أنثى، في عالم المخلوقات..
والذكر والأنثى تتم دورة الحياة وتعاقب الأجيال، كما بالليل والنهار يتولد الزمن، وبتكاثر نسله من الليالى والأيام! وقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} هو جواب القسم، وهو المقسم عليه..
والسعى: العمل في كل وجه من وجوه الحياة.. (وشتّى) أي شتيت مختلف الوجوه، متغاير الألوان.. فلكل إنسان وجهته التي هو مولّيها، وطريقه الذي يسلكه، وهيهات أن يتطابق إنسان وإنسان تطابقا تاما، حتى ولو أخذا وجها واحدًا، ودانا بدين واحد..
ففى الناس المؤمن والكافر، وفى الناس المنافق الذي يجمع بين الكفر والإيمان.. والمؤمنون، درجات، ومنازل، والكافرون، أنماط وصور، والمنافقون وجوه وأشكال..
واختلاف سعى الناس، أمر بدهىّ، يراه كل إنسان: المؤمنون والكافرون، والمحسنون والمسيئون جميعا.. فكل ذى عينين يشهد أن الناس طرائق قدد، وإلّا لاجتمعوا على عقيدة واحدة، ومذهب واحد، واتجاه واحد، فيما يأخذون أو يدعون من أمور.. هذه بديهة لا تحتاج إلى توكيد- فلم جاءت الآيات القرآنية مؤكدة لها بهذا القسم؟
والجواب على هذا، هو أن التوكيد بالقسم وإن وقع على المقسم عليه، وهو اختلاف سعى الناس- إلا أن المنظور إليه هو ما وراء هذا الاختلاف في المسعى، وهو أن هناك محسنين ومسيئين.. وهذا أمر يدعو العاقل إلى أن ينظر إلى نفسه وأن يفتش عن مكانه في المحسنين أو المسيئين، إذ كل إنسان عند نفسه أنه محسن، وحتى المحسن حقيقة، يقدر أن إحسانه مطلق لا تقع منه إساءة، وهذا غير واقع، فالمحسن ليس سعيه كله قائما على ميزان الإحسان، بل إن سعيه مختلف، فيه الحسن، وفيه السيّء، فلا ينبغى أن يسوّى حساب أعماله بينه وبين نفسه على ميزان الإحسان دائما.. بل يجب أن ينظر في كل عمل، ويعرضه على ميزان الحق، والعدل، والخير، فإن اطمأن إليه، ورضي عنه، أمضاه، وإلا عدل عنه.
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى}.
والناس في عمومهم، يدخلون تحت وصفين عامّين: مؤمنون وكافرون، أو محسنون ومسيئون..
فأما من أعطى، أي أنفق في سبيل اللّه، وفى وجوه الخير والإحسان، متّقيا بذلك ربّه، خائفا عذابه، طامعا في ثوابه {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي مؤمنا بما للعمل الطيب من قدر، معتقدا أنه العمل الأفضل والأحسن، لا أن يكون ما يصدر منه من أعمال الخير تلقائيا، وعفوا، لا تشده إليه إرادة صادقة، أو قصد محسوب حسابه، مقدرة آثاره.. وهذا يعنى أن الأعمال إنما تحكمها النيات الباعثة لها، الداعية إليها.. أما العمل الذي لا تنعقد عليه نية، ولا ينطلق من إرادة، فإنه سهم طائش، ورمية من غير رام.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرى ما نوى»..
وفى إطلاق الفعل {أعطى} من قيد الشيء المعطى- إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن ما يعطى لابد أن يكون شيئا طيبا نافعا لأن الإعطاء يقابله الأخذ، والإعطاء والأخذ لايتّمان إلا برغبة متبادلة بين المعطى والآخذ.. والآخذ لا يأخذ إلا ما ينفعه ويرضيه..
والأمر الآخر الذي يشير إليه إطلاق الفعل، هو أنه لا حدود للإعطاء، قلّة أو كثرة، كما يقول سبحانه: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ..} (91: التوبة) وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} أي أن من أخذ طريق الحق، وشدّ عزمه عليه، وصرف همه نحوه، يسّر اللّه له طريقه، وأعانه على المضي فيه، لأنه طريق اللّه، ومن كان على طريق اللّه، لم يحرم عونه، وتوفيقه..
وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى}.
وعلى عكس هذا من يبخل بماله، ويضنّ ببذله في سبيل اللّه، وفى وجوه الخير، ومن وراء هذا البخل تكذيب بالإحسان، وبخس لقدره، واعتقاد بعدم جدواه- من يفعل هذا، فهو على طريق الضلال، يرصده عليه شيطان يغريه ويغويه، ويدفع به دفعا على هذا الطريق.. وهذا يعنى أن اللّه سبحانه وتعالى ييسّر لكل إنسان طريقه الذي يضع قدمه عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (39: الأنعام) أي من يشأ اللّه إضلاله، أخلى بينه وبين نفسه، على طريق الضلال، وقيض له شيطانا، فهو له قرين، ورفيق، على هذا الطريق كما يقول سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (36: الزخرف).. ومن يشأ اللّه هدايته أقام وجهه على طريق الهدى، وزوده بالزاد الطيب الذي يعينه على مواصلة السير فيه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له..»
والعسرى: ضد اليسرى.. وهى من العسر، والتعقيد، بخلاف اليسرى فإنها من اليسر والسهولة.. وسميت طريق الضلال (عسرى) لأنها طريق مظلم، لا معلم من معالم الهدى فيه، وإن صاحبه ليظل يخبط في ظلام، ويتردى في معاثر حتى يرد مورد الهالكين.. أما طريق الهدى، فهى طريق واضحة المعالم، لا يضل سالكها أبدا.. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيا علي صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (22: الملك).
وقوله تعالى: {وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تردى} أي أن الذي يخل بماله، وضمن بالإنفاق منه في وجوه الخير، لن ينفعه هذا المال الذي أمسكه، ولن يجد منه عونا، إذا هو تردى في هاوية الجحيم!.
والتردي: الهوىّ والسقوط من عل. اهـ.